فصل: فَصْلٌ: بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ:

وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَالْكَلَامُ فِيهَا يَقَعُ فِي مَوَاضِعَ: فِي بَيَانِ وُجُوبِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ سَبَبِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ وَمَنْ لَا تَجِبُ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ، وَفِي بَيَانِ شَرَائِطِ جَوَازِهَا، وَفِي بَيَانِ مَحِلِّ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ أَدَائِهَا، وَفِي بَيَانِ سَبَبِهَا، وَفِي بَيَانِ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْقُرْآنِ.
أَمَّا الْأَوَّلُ فَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا: إنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ بِوَاجِبَةٍ وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ حِينَ عَلَّمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرَائِعَ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُنَّ؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَّوَّعَ فَلَوْ كَانَتْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ وَاجِبَةً لَمَا اُحْتُمِلَ تَرْكُ الْبَيَانِ بَعْدَ السُّؤَالِ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَاهَا فِي الْجُمُعَةِ الثَّانِيَةِ فَتَشَوَّفَ النَّاسُ لِلسُّجُودِ فَقَالَ: أَمَا إنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا إلَّا أَنْ نَشَاءَ.
(وَلَنَا) مَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إذَا تَلَا ابْنُ آدَمَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي وَيَقُولُ: أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَلَمْ أَسْجُدْ فَلِيَ النَّارُ»، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْحَكِيمَ مَتَى حَكَى عَنْ غَيْرِ الْحَكِيمِ أَمْرًا وَلَمْ يَعْقُبْهُ بِالنَّكِيرِ يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ صَوَابٌ فَكَانَ فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ ابْنِ آدَمَ مَأْمُورًا بِالسُّجُودِ وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَمَّ أَقْوَامًا بِتَرْكِ السُّجُودِ فَقَالَ: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ الذَّمُّ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ وَلِأَنَّ مَوَاضِعَ السُّجُودِ فِي الْقُرْآنِ مُنْقَسِمَةٌ مِنْهَا مَا هُوَ أَمْرٌ بِالسُّجُودِ وَإِلْزَامٌ لِلْوُجُوبِ كَمَا فِي آخِرِ سُورَةِ الْقَلَمِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ اسْتِكْبَارِ الْكَفَرَةِ عَنْ السُّجُودِ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُخَالَفَتُهُمْ بِتَحْصِيلِهِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إخْبَارٌ عَنْ خُشُوعِ الْمُطِيعِينَ فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُتَابَعَتُهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ} وَعَنْ عُثْمَانَ، وَعَلِيٍّ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا: السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ تَلَاهَا، وَعَلَى مَنْ سَمِعَهَا، وَعَلَى مَنْ جَلَسَ لَهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمْ وَعَلَى كَلِمَةِ إيجَابٍ.
وَأَمَّا حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ فَفِيهِ بَيَانُ الْوَاجِبِ ابْتِدَاءً لَا مَا يَجِبُ بِسَبَبٍ يُوجَدُ مِنْ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الْمَنْذُورَ وَهُوَ وَاجِبٌ وَأَمَّا قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَقُولُ بِمُوجَبِهِ: إنَّهَا لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا بَلْ أُوجِبَتْ، وَفَرْقٌ بَيْن الْفَرْضِ وَالْوَاجِب عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ.

.فَصْلٌ: بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ:

وَأَمَّا بَيَانُ كَيْفِيَّةِ وُجُوبِهَا فَأَمَّا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّرَاخِي دُونَ الْفَوْرِ عِنْدَ عَامَّةِ أَهْلِ الْأُصُولِ؛ لِأَنَّ دَلَائِلَ الْوُجُوبِ مُطْلَقَةٌ عَنْ تَعْيِينِ الْوَقْتِ فَتَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْ الْوَقْتِ غَيْرِ عَيْنٍ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِتَعْيِينِهِ فِعْلًا، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي آخِرِ عُمُرِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْمُوَسَّعَةِ.
(وَأَمَّا) فِي الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى سَبِيلِ التَّضْيِيقِ لِقِيَامِ دَلِيلِ التَّضْيِيقِ وَهُوَ أَنَّهَا وَجَبَتْ بِمَا هُوَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ فَالْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَصَارَتْ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهَا وَلِهَذَا يَجِبُ أَدَاؤُهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَا يُوجِبُ حُصُولُهَا فِي الصَّلَاةِ نُقْصَانًا فِيهَا، وَتَحْصِيلُ مَا لَيْسَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ إنْ لَمْ يُوجِبْ فَسَادَهَا يُوجِبُ نُقْصَانًا، وَإِذَا الْتَحَقَتْ بِأَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَجَبَ أَدَاؤُهَا مُضَيَّقًا كَسَائِرِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ خَارِجِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا دَلِيلَ عَلَى التَّضْيِيقِ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فَلَمْ يَسْجُدْ وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى طَالَتْ الْقِرَاءَةُ ثُمَّ رَكَعَ وَنَوَى السُّجُودَ لَمْ يُجْزِهِ.
وَكَذَا إذَا نَوَاهَا فِي السَّجْدَةِ الصُّلْبِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا وَالدَّيْنُ يُقْضَى بِمَا لَهُ لَا بِمَا عَلَيْهِ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عَلَيْهِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الدَّيْنُ عَلَى مَا نَذْكُرُ وَلِهَذَا قُلْنَا: إنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ لِلتِّلَاوَةِ فِي الْمِصْرِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ فِي الْمِصْرِ لَا يَتَحَقَّقُ عَادَةً وَالْجَوَازُ بِالتَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لَنْ يَكُونَ إلَّا لِخَوْفِ الْفَوْتِ أَصْلًا كَمَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ وَالْعِيدِ وَلَا خَوْفَ هاهنا لِانْعِدَامِ وَقْتٍ مُعَيَّنٍ لَهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ لِأَدَائِهَا بِالْإِجْمَاعِ.

.فَصْلٌ: سَبَبُ وُجُوبِ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ:

وَأَمَّا سَبَبُ وُجُوبِ السَّجْدَةِ فَسَبَبُ وُجُوبِهَا أَحَدُ شَيْئَيْنِ: التِّلَاوَةُ، أَوْ السَّمَاعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حَالِهِ مُوجِبٌ فَيَجِبُ عَلَى التَّالِي الْأَصَمِّ وَالسَّامِعِ الَّذِي لَمْ يَتْلُ.
أَمَّا التِّلَاوَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا السَّمَاعُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَلْحَقَ اللَّائِمَةَ بِالْكُفَّارِ لِتَرْكِهِمْ السُّجُودَ إذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ}، وَقَالَ تَعَالَى: {إنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} الْآيَةَ، مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فِي الْآيَتَيْنِ بَيْنَ التَّالِي وَالسَّامِعِ، وَرَوَيْنَا عَنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ السَّجْدَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَهَا وَلِأَنَّ حُجَّةَ اللَّهِ تَعَالَى تَلْزَمُهُ بِالسَّمَاعِ كَمَا تَلْزَمُهُ بِالتِّلَاوَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَخْضَعَ لِحُجَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالسَّمَاعِ كَمَا يَخْضَعُ بِالْقِرَاءَةِ.
وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي حَقِّ التَّالِي بَيْنَ مَا إذَا تَلَا السَّجْدَةَ بِالْعَرَبِيَّةِ أَوْ بِالْفَارِسِيَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يَلْزَمُهُ السُّجُودُ فِي الْحَالَيْنِ.
وَأَمَّا فِي حَقِّ السَّامِعِ فَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ فَقَالُوا: يَلْزَمُهُ بِالْإِجْمَاعِ فَهِمَ أَوْ لَمْ يَفْهَمْ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ وُجِدَ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ وَلَا يَقِفُ عَلَى الْعِلْمِ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ، وَإِنْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْفَارِسِيَّةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ بِالْفَارِسِيَّةِ جَائِزَةٌ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي: إنْ كَانَ السَّامِعُ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَعَلَيْهِ السَّجْدَةُ وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ الْفَارِسِيَّةَ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ سَوَاءٌ فُهِمَ أَوْ لَمْ يُفْهَمْ كَمَا لَوْ سَمِعَهَا مِمَّنْ يَقْرَأُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهُ قُرْآنًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ وَإِنْ فُهِمَ.
اجْتَمَعَ سَبَبَا الْوُجُوبِ وَهُمَا: التِّلَاوَةُ، وَالسَّمَاعُ بِأَنْ تَلَا السَّجْدَةَ ثُمَّ سَمِعَهَا، أَوْ سَمِعَهَا ثُمَّ تَلَاهَا أَوْ تَكَرَّرَ أَحَدُهُمَا فَنَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ السَّجْدَةَ لَا يَتَكَرَّرُ وُجُوبُهَا إلَّا بِأَحَدِ أُمُورٍ ثَلَاثَةٍ: إمَّا اخْتِلَافُ الْمَجْلِسِ، أَوْ التِّلَاوَةُ، أَوْ السَّمَاعُ حَتَّى أَنَّ مَنْ تَلَا آيَةً وَاحِدَةً مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ تَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَنْزِلُ بِالْوَحْيِ فَيَقْرَأُ آيَةَ السَّجْدَةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَسُولُ اللَّهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْمَعُ وَيَتَلَقَّنُ ثُمَّ يَقْرَأُ عَلَى أَصْحَابِهِ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ مُعَلِّمِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ الْآيَةَ مِرَارًا وَكَانَ لَا يَزِيدُ عَلَى سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُكَرِّرُ آيَةَ السَّجْدَةِ حِينَ كَانَ يُعَلِّمُ الصِّبْيَانَ وَكَانَ لَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةَ وَلِأَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ جَامِعٌ لِلْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ كَمَا فِي الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ السَّجْدَةِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ إيقَاعٌ فِي الْحَرَجِ لِكَوْنِ الْمُعَلِّمِينَ مُبْتَلِينَ بِتَكْرَارِ الْآيَةِ لِتَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ بِنَصِّ الْكِتَابِ وَلِأَنَّ السَّجْدَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالتِّلَاوَةِ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ لِلتِّلَاوَةِ فَأَمَّا التَّكْرَارُ فَلَمْ يَكُنْ لِحَقِّ التِّلَاوَةِ بَلْ لِلتَّحَفُّظِ أَوْ لِلتَّدَبُّرِ وَالتَّأَمُّلِ فِي ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَلْبِ وَلَا تَعَلُّقَ لِوُجُوبِ السَّجْدَةِ بِهِ فَجُعِلَ الْإِجْرَاءُ عَلَى اللِّسَانِ الَّذِي هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ أَوْ وَسِيلَةٌ إلَيْهِ مِنْ أَفْعَالِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا هُوَ فِعْلُ الْقَلْبِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِسَبَبٍ، كَذَا عَلَّلَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ.
(وَأَمَّا) الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ ذَكَرَهُ أَوْ سَمِعَ ذِكْرَهُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكُتُبِ وَذَهَبَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى أَنَّهُ يَكْفِيهِ مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ قِيَاسًا عَلَى السَّجْدَةِ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَجْفُونِي بَعْدَ مَوْتِي فَقِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ نَجْفُوَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَنْ أُذْكَرَ فِي مَوْضِعٍ فَلَا يُصَلَّى عَلَيَّ» وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَقُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُقُوقُ الْعِبَادِ لَا تَتَدَاخَلُ، وَعَلَى هَذَا اخْتَلَفُوا فِي تَشْمِيتِ الْعَاطِسِ إنَّ مَنْ عَطَسَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِرَارًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْبَغِي لِلسَّامِعِ أَنْ يُشَمِّتَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعَاطِسِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إذَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثِ لَا يُشَمِّتُهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْعَاطِسِ فِي مَجْلِسِهِ بَعْدَ الثَّلَاثِ: قُمْ فَانْتَثِرْ فَإِنَّكَ مَزْكُومٌ.
(ثُمَّ) لَا فَرْقَ هاهنا بَيْنَ مَا إذَا تَلَا مِرَارًا ثُمَّ سَجَدَ وَبَيْنَ مَا إذَا تَلَا وَسَجَدَ ثُمَّ تَلَا بَعْدَ ذَلِكَ مِرَارًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا زَنَى مِرَارًا أَنَّهُ لَا يُحَدُّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلَوْ زَنَى مَرَّةً ثُمَّ حُدَّ ثُمَّ زَنَى مَرَّةً أُخْرَى يُحَدُّ ثَانِيًا وَكَذَا ثَالِثًا وَرَابِعًا، وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ تَكَرَّرَ السَّبَبُ لِمُسَاوَاةِ كُلِّ فِعْلٍ الْأَوَّلَ فِي الْمَأْثَمِ، وَالْقُبْحِ وَفَسَادِ الْفِرَاشِ، وَكُلِّ مَعْنًى صَارَ بِهِ الْأَوَّلُ سَبَبًا إلَّا أَنَّهُ لَمَّا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ جُعِلَ ذَلِكَ حُكْمًا لِكُلِّ سَبَبٍ فَجُعِلَ بِكَمَالِهِ حُكْمًا لِهَذَا وَحُكْمًا لِذَاكَ وَجُعِلَ كَأَنَّ كُلَّ سَبَبٍ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لِحُصُولِ مَا شُرِعَ لَهُ الْحَدُّ وَهُوَ الزَّجْرُ عَنْ الْمُعَاوَدَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَإِذَا وُجِدَ الزِّنَا بَعْدَ ذَلِكَ انْعَقَدَ سَبَبًا كَاَلَّذِي تَقَدَّمَ فلابد مِنْ وُجُودِ حُكْمِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ؛ لِأَنَّ هاهنا السَّبَبُ هُوَ التِّلَاوَةُ وَالْمَرَّةُ الْأُولَى هِيَ الْحَاصِلَةُ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ عَلَى مَا مَرَّ فَلَمْ يَتَكَرَّرْ السَّبَبُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَبَدَّلُ بِتَخَلُّلِ السَّجْدَةِ بَيْنَهُمَا وَعَدَمِ التَّخَلُّلِ لِحُصُولِ الثَّانِيَةِ بِحَقِّ التَّأَمُّلِ وَالتَّحَفُّظِ فِي الْحَالَيْنِ.
وَكَذَا السَّامِعُ لَتِلْكَ التِّلَاوَاتِ الْمُتَكَرِّرَةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا بِالْمَرَّةِ الْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَهَا فِي حَقِّهِ جُعِلَ غَيْرَ سَبَبٍ بَلْ تَبَعًا لِلتَّأَمُّلِ وَالْحِفْظِ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ يُفِيدُ الْمَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا أَعْنِي الْإِعَانَةَ عَلَى الْحِفْظِ وَالتَّدَبُّرِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعَ إنْسَانٌ آخَرُ الْمَرَّةَ الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ أَوْ الرَّابِعَةَ وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَوَّلَ مَا سَمِعَ حَيْثُ تَلْزَمُهُ السَّجْدَةُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَرَّةٍ تِلَاوَةٌ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ جُعِلَتْ سَاقِطَةً فِي حَقِّ مَنْ تَكَرَّرَتْ فِي حَقِّهِ فَفِي حَقِّ مَنْ لَمْ تَتَكَرَّرْ بَقِيَتْ عَلَى حَقِيقَتِهَا.
وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ آيَةً وَاحِدَةً فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ النُّصُوصَ مُنْعَدِمَةً وَالْجَامِعُ وَهُوَ الْمَجْلِسُ غَيْرُ ثَابِتٍ وَالْحَرَجُ مَنْفِيٌّ وَمَعْنَى التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ زَائِلٌ؛ لِأَنَّهَا فِي الْمَجْلِسِ الْآخَرِ حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ لِيَنَالَ ثَوَابَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَ آيَاتٍ مُتَفَرِّقَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِزَوَالِ هَذِهِ الْمَعَانِي أَيْضًا.
أَمَّا النُّصُوصُ فَلَا تُشْكِلُ وَكَذَا الْمَعْنَى الْجَامِعِ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَا يَجْعَلُ الْكَلِمَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْآخَرِ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَلِعَبْدِهِ بِالْعِتْقِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لَا يَجْعَلُ الْمَجْلِسُ الْكُلَّ إقْرَارًا وَاحِدًا، وَكَذَا الْحَرَجُ مُنْتَفٍ، وَكَذَا التِّلَاوَةُ الثَّانِيَةُ لَا تَكُونُ لِلتَّدَبُّرِ فِي الْأُولَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَكَان وَذَهَبَ عَنْهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا فَعَلَيْهِ أُخْرَى؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ فَتَجَدَّدَ السَّبَبُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ هَذَا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ أُخْرَى وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ تَلَاهَا فِي مَكَانِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُ النَّاسَ بِالْبَصْرَةِ وَكَانَ يَزْحَفُ إلَى هَذَا تَارَةً وَإِلَى هَذَا تَارَةً أُخْرَى فَيُعَلِّمُهُمْ آيَةَ السَّجْدَةِ وَلَا يَسْجُدُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً.
وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَوْضِعٍ وَمَعَهُ رَجُلٌ يَسْمَعُهَا ثُمَّ ذَهَبَ التَّالِي عَنْهُ ثُمَّ انْصَرَفَ إلَيْهِ فَأَعَادَهَا وَالسَّامِعُ عَلَى مَكَانِهِ سَجَدَ التَّالِي لِكُلِّ مَرَّةٍ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ التِّلَاوَةُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ.
وَأَمَّا السَّامِعُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ سَمَاعُ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ مَا حَصَلَتْ بِحَقِّ التِّلَاوَةِ فِي حَقِّهِ لِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ.
وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّالِي عَلَى مَكَانِهِ ذَلِكَ وَالسَّامِعُ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَيَسْمَعُ تِلْكَ الْآيَةِ سَجَدَ السَّامِعُ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً وَلَيْسَ عَلَى التَّالِي إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِتَجَدُّدِ السَّبَبِ فِي حَقِّ السَّامِعِ دُونَ التَّالِي عَلَى مَا مَرَّ.
وَلَوْ تَلَاهَا فِي مَسْجِدِ جَمَاعَةٍ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ فِي زَاوِيَةٍ ثُمَّ تَلَاهَا فِي زَاوِيَةٍ أُخْرَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ مَكَان وَاحِدٍ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ فَفِي حَقِّ السَّجْدَةِ أَوْلَى، وَكَذَا حُكْمُ السَّمَاعِ، وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ وَالْمَحْمَلُ وَالسَّفِينَةُ فِي حُكْمِ التِّلَاوَةِ وَالسَّمَاعِ سَوَاءٌ كَانَتْ السَّفِينَةُ وَاقِفَةً، أَوْ جَارِيَةً بِخِلَافِ الدَّابَّةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ.
وَلَوْ تَلَاهَا وَهُوَ يَمْشِي لَزِمَهُ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ لِتَبَدُّلِ الْمَكَانِ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ يَسْبَحُ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ أَوْ بَحْرٍ لِمَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ يَسْبَحُ فِي حَوْضٍ أَوْ غَدِيرٍ لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ قِيلَ يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَوْ تَلَاهَا عَلَى غُصْنٍ ثُمَّ انْتَقَلَ إلَى غُصْنٍ آخَرَ اخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِيهِ وَكَذَا التِّلَاوَةُ عِنْدَ الْكِرْسِ، وَقَالُوا فِي تَسْدِيَةِ الثَّوْبِ إنَّهُ يَتَكَرَّرُ الْوُجُوبُ.
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ مِرَارًا وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ إنْ كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ سَجَدَ لِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةً عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا قَرَأَهَا فِي السَّفِينَةِ وَهِيَ تَجْرِي حَيْثُ تَكْفِيهِ وَاحِدَةٌ.
(وَالْفَرْقُ) أَنَّ قَوَائِمَ الدَّابَّةِ جُعِلَتْ كَرِجْلَيْهِ حُكْمًا لِنُفُوذِ تَصَرُّفِهِ عَلَيْهَا فِي السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ فَكَانَ تَبَدُّلُ مَكَانِهَا كَتَبَدُّلِ مَكَانِهِ فَحَصَلْت الْقِرَاءَةُ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ فَتَعَلَّقَتْ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ بِخِلَافِ السَّفِينَةِ فَإِنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ بِمَنْزِلَةِ رِجْلَيْ الرَّاكِبِ لِخُرُوجِهَا عَنْ قَبُولِ تَصَرُّفِهِ فِي السَّيْرِ وَالْوُقُوفِ وَلِهَذَا أُضِيفَ سَيْرُهَا إلَيْهَا دُونَ رَاكِبِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {حَتَّى إذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} وَقَالَ: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} فَلَمْ يَجْعَلْ تَبَدُّلَ مَكَانِهَا تَبَدُّلَ مَكَانِهِ بَلْ مَكَانُهُ مَا اسْتَقَرَّ هُوَ فِيهِ مِنْ السَّفِينَةِ مِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْحُكْمُ وَذَلِكَ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَكَانَتْ التِّلَاوَةُ مُتَكَرِّرَةً فِي مَكَان وَاحِدٍ فَلَمْ يَجِبْ لَهَا إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الْبَيْتِ وَعَلَى هَذَا حُكْمُ السَّمَاعِ بِأَنْ سَمِعَهَا مِنْ غَيْره مَرَّتَيْنِ وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِ السَّامِعِ، هَذَا إذَا كَانَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الصَّلَاةِ بِأَنْ تَلَاهَا وَهُوَ يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ وَيُصَلِّي عَلَيْهَا إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْإِجْمَاعِ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ حَيْثُ جَوَّزَ صَلَاتَهُ عَلَيْهَا مَعَ حُكْمِهِ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ فِي الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَسْقَطَ اعْتِبَارَ اخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ أَوْ جَعَلَ مَكَانَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ظَهْرَ الدَّابَّةِ لَا مَا هُوَ مَكَانُ قَوَائِمِهَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِ اعْتِبَارِ الْأَمَاكِنِ الْمُخْتَلِفَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَغْيِيرٍ لِلْحَقِيقَةِ أَوْ هُوَ أَقَلُّ تَغْيِيرًا لَهَا وَذَلِكَ تَغْيِيرٌ لِلْحَقِيقَةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ وَالظَّهْرُ مُتَّحِدٌ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَصَارَ رَاكِبُ الدَّابَّةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَرَاكِبِ السَّفِينَةِ يُحَقِّقُهُ أَنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ صَلَاتَهُ وَلَوْ جَعَلَ مَكَانَهُ أَمْكِنَةَ قَوَائِمِ الدَّابَّةِ لَصَارَ هُوَ مَاشِيًا بِمَشْيِهَا، وَالصَّلَاةُ مَاشِيًا لَا تَجُوزُ.
(وَأَمَّا) إذَا كَرَّرَ التِّلَاوَةَ فِي رَكْعَتَيْنِ فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكْفِيَهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الَّتِي رَجَعَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ عَنْ الِاسْتِحْسَانِ إلَى الْقِيَاسِ إحْدَاهَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الرَّهْنَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ رَهْنًا بِالْمُتْعَةِ قِيَاسًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ رَهْنًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا جَنَى جِنَايَةً فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَاخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ الْقِيَاسُ أَنْ يُخَيَّرَ الْمَوْلَى ثَانِيًا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُخَيَّرُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يُخَيَّرُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ إذَا صَلَّى عَلَى الْأَرْضِ وَقَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي رَكْعَتَيْنِ وَلَا خِلَافَ فِيمَا إذَا قَرَأَهَا فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَكَانَ هاهنا وَإِنْ اتَّحَدَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَكِنْ مَعَ هَذَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّ لِكُلِّ رَكْعَةٍ قِرَاءَةً مُسْتَحَقَّةً فَلَوْ جَعَلْنَا الثَّانِيَةَ تَكْرَارًا لِلْأُولَى وَالْتَحَقَتْ الْقِرَاءَةُ بِالرَّكْعَةِ الْأَوْلَى لَخَلَتْ الثَّانِيَةُ عَنْ الْقِرَاءَةِ وَلَفَسَدَتْ وَحَيْثُ لَمْ تَفْسُدْ دَلَّ أَنَّهَا لَمْ تُجْعَلْ مُكَرَّرَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَرَّرَ التِّلَاوَةَ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَمْكَنَ جَعْلُ التِّلَاوَةِ الْمُتَكَرِّرَةِ مُتَّحِدَةً حُكْمًا.
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْمَكَانَ مُتَّحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيُوجِبُ كَوْنَ الثَّانِيَةِ تَكْرَارًا لِلْأُولَى كَمَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ، وَمَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ لَا يَسْتَقِيمُ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ لَهَا حُكْمَانِ جَوَازُ الصَّلَاةِ، وَوُجُوبُ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ وَنَحْنُ إنَّمَا نَجْعَلُ الْقِرَاءَةَ الثَّانِيَةَ مُلْتَحِقَةً بِالْأُولَى فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ.
وَلَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ فَقَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى فَسَجَدَ بِالْإِيمَاءِ ثُمَّ أَعَادَهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَخِيرِ لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى.
وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَلْزَمُهُ أُخْرَى، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ قَدْ يَكُونُ حَقِيقَةً وَقَدْ يَكُونُ حُكْمًا بِأَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ أَكَلَ أَوْ نَامَ مُضْطَجِعًا، أَوْ أَرْضَعَتْ صَبِيًّا، أَوْ أَخَذَ فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ عَمَلٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ يَتَبَدَّلُ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَوْمَ يَجْلِسُونَ لِدَرْسِ الْعِلْمِ فَيَكُونُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الدَّرْسِ، ثُمَّ يَشْتَغِلُونَ بِالنِّكَاحِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ النِّكَاحِ، ثُمَّ بِالْبَيْعِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْبَيْعِ، ثُمَّ بِالْأَكْلِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْأَكْلِ، ثُمَّ بِالْقِتَالِ فَيَصِيرُ مَجْلِسُهُمْ مَجْلِسَ الْقِتَالِ فَصَارَ تَبَدُّلُ الْمَجْلِسِ بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ كَتَبَدُّلِهِ بِالذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لِمَا مَرَّ.
وَلَوْ نَامَ قَاعِدًا أَوْ أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَ شَرْبَةً أَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْ عَمِلَ عَمَلًا يَسِيرًا ثُمَّ أَعَادَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أُخْرَى؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ وَالْقِيَاسُ فِيهِمَا سَوَاءٌ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى لِاتِّحَادِ الْمَكَانِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا إذَا طَالَ الْعَمَلُ اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ إذَا عَمِلَتْ عَمَلًا كَثِيرًا خَرَجَ الْأَمْرُ عَنْ يَدِهَا وَكَانَ قَطْعًا لِلْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَكَلَ لُقْمَةً أَوْ شَرِبَ شَرْبَةً.
وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ فَأَطَالَ الْقِرَاءَةَ بَعْدَهَا أَوْ أَطَالَ الْجُلُوسَ ثُمَّ أَعَادَهَا لَيْسَ عَلَيْهِ سَجْدَةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ مَجْلِسَهُ لَمْ يَتَبَدَّلْ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَطُولِ الْجُلُوسِ، وَكَذَا لَوْ اشْتَغَلَ بِالتَّسْبِيحِ أَوْ بِالتَّهْلِيلِ ثُمَّ أَعَادَهَا لَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَهَا وَهُوَ جَالِسٌ ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ إلَّا أَنَّهُ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ لَمْ يَتَبَدَّلْ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْرَحْ مَكَانَهُ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ الْمَوْجُودَ قِيَامٌ وَهُوَ عَمَلٌ قَلِيلٌ كَأَكْلِ لُقْمَةٍ، أَوْ شُرْبِ شَرْبَةٍ وَبِمِثْلِهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَيَّرَ امْرَأَتَهُ فَقَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا حَيْثُ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَمَا لَوْ انْتَقَلَتْ إلَى مَجْلِسٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ خُرُوجَ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا مُوجِبُ الِاعْتِرَاض عَنْ قَبُولِ التَّمْلِيكِ إذْ التَّخْيِيرُ تَمْلِيكٌ عَلَى مَا يُعْرَفُ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَمَنْ مَلَكَ شَيْئًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ يَبْطُلُ ذَلِكَ التَّمْلِيكُ وَهَذَا لِأَنَّ الْقِيَامَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا أَوْ زَوْجَهَا أَمْرٌ تَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ لِتَنْظُرَ أَيَّ ذَلِكَ أَعْوَدَ لَهَا وَأَنْفَعَ، وَالْقُعُودُ أَجْمَعُ لِلذِّهْنِ وَأَشَدُّ إحْضَارًا لِلرَّأْيِ فَالْقِيَامُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ إلَى مَا يُوجِبُ تَفَرُّقَ الذِّهْنِ وَفَوَاتَ الرَّأْيِ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ أَمَّا هاهنا فَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ وَتَعَدُّدِهِ لَا بِالْإِعْرَاضِ وَعَدَمِهِ وَالْمَجْلِسُ لَمْ يَتَبَدَّلْ فَلَمْ يَعْدُ مُتَعَدِّدًا مُتَفَرِّقًا.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَهَا وَهُوَ قَائِمٌ فَقَعَدَ ثُمَّ أَعَادَهَا يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ قَرَأَهَا فِي مَكَان ثُمَّ قَامَ وَرَكِبَ الدَّابَّةَ عَلَى مَكَانِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ عَلَى الْأَرْضِ، وَلَوْ سَارَتْ الدَّابَّةُ ثُمَّ تَلَا بَعْدَهَا فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ قَبْلَ السَّيْرِ فَأَعَادَهَا يَكْفِيهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ لِتَبَدُّلِ مَكَانِهِ بِالنُّزُولِ أَوْ الرُّكُوبِ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ النُّزُولَ أَوْ الرُّكُوبَ عَمَلٌ قَلِيلٌ فَلَا يُوجِبُ تَبَدُّلَ الْمَجْلِسِ وَإِنْ كَانَ سَارَ ثُمَّ نَزَلَ فَعَلَيْهِ سَجْدَتَانِ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَشْيِهِ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ وَكَذَلِكَ لَوْ قَرَأَهَا ثُمَّ قَامَ فِي مَكَانِهِ ذَلِكَ وَرَكِبَ ثُمَّ نَزَلَ قَبْلَ السَّيْرِ فَأَعَادَهَا لَا تَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا قُلْنَا.
وَلَوْ قَرَأَهَا رَاكِبًا ثُمَّ نَزَلَ ثُمَّ رَكِبَ فَأَعَادَهَا وَهُوَ عَلَى مَكَانِهِ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ لِمَا بَيَّنَّا وَالْأَصْلُ أَنَّ النُّزُولَ وَالرُّكُوبَ لَيْسَا بِمَكَانَيْنِ وَلَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَسْجُدْ لَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَتَلَاهَا فِي عَيْنِ ذَلِكَ الْمَكَانِ صَارَتْ إحْدَى السَّجْدَتَيْنِ تَابِعَةً لِلْأُخْرَى فَتَسْتَتْبِعُ الَّتِي وُجِدَتْ فِي الصَّلَاةِ الَّتِي وُجِدَتْ قَبْلَهَا وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ وَتُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَتْلُ إلَّا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ خَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْوُجُوبِ وَإِذَا لَمْ يَسْجُدْ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا الْمَأْثَمُ وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، وَكِتَابِ الصَّلَاةِ مِنْ الْأَصْلِ وَنَوَادِرِ الصَّلَاةِ الَّتِي رَوَاهَا الشَّيْخُ أَبُو حَفْصٍ الْكَبِيرُ وَلَنَا عَلَى رِوَايَةِ الصَّلَاةِ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو سُلَيْمَانَ لَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بَلْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهَا وَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ تِلْكَ التِّلَاوَةِ الْأُولَى وَبَقِيَتْ السَّجْدَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ سَوَاءٌ سَجَدَ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ لَمْ يَسْجُدْ.
وَأَمَّا إذَا تَلَاهَا وَسَجَدَ لَهَا ثُمَّ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ وَأَعَادَهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَسْجُدُ لِلْمَتْلُوَّةِ فِي الصَّلَاةِ بِاتِّفَاقِ الرِّوَايَتَيْنِ، أَمَّا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ فَلِعَدَمِ الِاسْتِتْبَاعِ وَثُبُوتِ الِاسْتِقْلَالِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ فَلِكَوْنِ الْمَوْجُودَةِ خَارِجَ الصَّلَاةِ تَابِعَةً لِلْمَوْجُودَةِ فِي الصَّلَاةِ وَالتَّابِعُ لَا يَسْتَتْبِعُ الْمَتْبُوعَ فَلَا تَصِيرُ السَّجْدَةُ لِتِلْكَ التِّلَاوَةِ مَانِعَةً مِنْ لُزُومِ السَّجْدَةِ بِهَذِهِ التِّلَاوَةِ.
وَجْهُ رِوَايَةِ نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ الْآيَةَ تُلِيَتْ فِي مَجْلِسَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ حُكْمًا؛ لِأَنَّ الْأُولَى وُجِدَتْ فِي مَجْلِسِ التِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةَ فِي مَجْلِسِ الصَّلَاةِ وَالْمَجْلِسُ يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْأَفْعَالِ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَجْلِسَ عَقْدٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ مُذَاكَرَةٍ ثُمَّ يَصِيرُ مَجْلِسَ أَكْلٍ وَاعْتُبِرَ هَذَا التَّبَدُّلُ فِي حَقِّ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فِي بَابِ الْعُقُودِ وَكُلِّ مَا يَتَعَلَّقُ بِاتِّحَادِ الْمَجْلِسِ فَكَذَا هَذَا؛ لِأَنَّ التَّعَدُّدَ الْحُكْمِيَّ مُلْحَقٌ بِالتَّعَدُّدِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْمَوَاضِعِ أَجْمَعَ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ وَحُكْمٍ وَلَا تَسْتَتْبِعُ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلِأَنَّ الثَّانِيَةَ تَفُوتُ لِالْتِحَاقِهَا بِأَجْزَاءِ الصَّلَاةِ لِتَعَلُّقِهَا بِمَا هُوَ رُكْنٌ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَمْ يُمْكِنْ أَنْ تُجْعَلَ تَابِعَةً لِلْأُولَى فَالْأُولَى أَيْضًا تَفُوتُ بِالسَّبْقِ فَلَا تَصِيرُ تَابِعَةً لِمَا بَعْدَهَا إذْ الشَّيْءُ لَا يَتْبَعُ مَا بَعْدَهُ وَلَا يَسْتَتْبِعُ مَا قَبْلَهُ.
وَجْهُ رِوَايَةِ الْجَامِعِ وَالْمَبْسُوطِ أَنَّ الْمَجْلِسَ مُتَّحِدٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَظَاهِرَةٌ، وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ وَإِنْ صَارَ مَجْلِسَ صَلَاةٍ وَلَكِنْ فِي الصَّلَاةِ تِلَاوَةٌ مَفْرُوضَةٌ فَكَانَ مَجْلِسُ الصَّلَاةِ مَجْلِسَ التِّلَاوَةِ ضَرُورَةً فَلَمْ يُوجَدْ التَّبَدُّلُ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فلابد مِنْ إثْبَاتِ صِفَةِ الِاتِّحَادِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ لِلتِّلَاوَتَيْنِ الْمُتَعَدِّدَتَيْنِ حَقِيقَةً لِوُجُودِ الْمُوجِبِ لِصِفَةِ الِاتِّحَادِ وَهُوَ الْمَجْلِسُ الْمُتَّحِدُ، وَكَذَا الْمُتَعَدِّدُ مِنْ أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا كَالسَّمَاعِ وَالتِّلَاوَةِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ سَبَبٌ، ثُمَّ مَنْ قَرَأَ وَسَمِعَ مِنْ نَفْسِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ فَالْتَحَقَ السَّبَبَانِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فَدَلَّ أَنَّ الْمُتَعَدِّدَ مِنْ أَسْبَابِ السَّجْدَةِ قَابِلٌ لِلِاتِّحَادِ حُكْمًا فَصَارَ مُتَّحِدًا حُكْمًا وَزَمَانُ وُجُودِ الْوَاحِدِ وَاحِدٌ فَجُعِلَ كَأَنَّ التِّلَاوَتَيْنِ وُجِدَتَا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ وَلَا وَجْهَ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا خَارِجَ الصَّلَاةِ وَلِأَنَّ الْمَوْجُودَةَ فِي الصَّلَاتَيْنِ مُتَقَرِّرَةٌ فِي مَحِلِّهَا بِدَلِيلِ جَوَازِ الصَّلَاةِ وَلَوْ جُعِلَ كَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ وُجُوبِ السَّجْدَةِ دُونَ جَوَازِ الصَّلَاةِ لَبَقِيَ التَّعَدُّدُ مِنْ وَجْهٍ مَعَ وُجُودِ دَلِيلِ الِاتِّحَادِ، وَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالدَّلِيلَيْنِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ كَانَ أَوْلَى مِنْ الْعَمَلِ بِالدَّلِيلِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ الْمَوْجُودَةُ فِي الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ التَّفَكُّرِ لِتَعَلُّقِ جَوَازِ الصَّلَاةِ بِهَا وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْقِرَاءَةِ دُونَ التَّفَكُّرِ وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ تُجْعَلَ الْأُولَى كَأَنَّهَا وُجِدَتْ فِي الصَّلَاةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ تُلِيَتَا فِي الصَّلَاةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ إلَّا سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ كَذَا هَذَا.
وَعَلَى هَذَا إذَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ آيَةَ السَّجْدَةِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَتَلَا تِلْكَ الْآيَةِ بِعَيْنِهَا فِي الصَّلَاةِ فَهَذَا وَاَلَّذِي تَلَا بِنَفْسِهِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ مَكَانَهُ ثُمَّ أَعَادَهَا سَوَاءٌ وَقَدْ مَرَّ الْكَلَامُ فِيهِ.
وَلَوْ قَرَأَهَا فِي الصَّلَاةِ أَوَّلًا ثُمَّ سَلَّمَ فَأَعَادَهَا قَبْلَ أَنْ يَبْرَحَ مَكَانَهُ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُخْرَى، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ.
وَجْهُ رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَنَّ الْمَوْجُودَةَ فِي الصَّلَاةِ تَفُوتُ بِالسَّبْقِ، وَحُرْمَةِ الصَّلَاةِ جَمِيعًا فَيَسْتَتْبِعُ الْأَدْنَى دَرَجَةً الْمُتَأَخِّرَةُ وَقْتًا وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ التَّعْلِيلَ لِرِوَايَةِ النَّوَادِرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِاخْتِلَافِ الْمَجْلِسِ حُكْمًا لَيْسَ بِصَحِيحٍ.
وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمَتْلُوَّةَ فِي الصَّلَاةِ لَا وُجُودَ لَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَكَذَا الْحُكْمُ فَإِنَّ بَعْدَ انْقِطَاعِ التَّحْرِيمَةِ لَا بَقَاءَ لِمَا هُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الصَّلَاةِ أَصْلًا وَالْمَوْجُودُ هُوَ الَّذِي يُسْتَتْبَعُ دُونَ الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْأُولَى مَتْلُوَّةً خَارِجَ الصَّلَاةِ فَإِنَّ تِلْكَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ التِّلَاوَةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَإِذَا تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ وُجِدَتْ وَالْأُولَى مَوْجُودَةٌ فَاسْتَتْبَعَ الْأَقْوَى الْأَضْعَفُ الْأَوْهَى.
وَذَكَرَ الْإِمَامُ السَّرَخْسِيُّ أَنَّهُ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ فَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي النَّوَادِرِ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ مَا سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ وَبِالسَّلَامِ لَمْ يَنْقَطِعْ فَوْرُ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ أَعَادَهَا فِي الصَّلَاةِ وَوَضَعَهَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ مَا سَلَّمَ وَتَكَلَّمَ وَبِالْكَلَامِ يَنْقَطِعُ فَوْرُ الصَّلَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَذَكَّرَ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ بَعْدَ السَّلَامِ يَأْتِي بِهَا وَبَعْدَ الْكَلَامِ لَا يَأْتِي بِهَا؟ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى تَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ وَإِنْ لَمْ يَسْجُدْهَا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى سَجَدَهَا الْآنَ قَالَ فِي الْأَصْلِ: أَجْزَأَهُ عَنْهُمَا، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ السَّلَامِ قَبْلَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ فَكَأَنَّهُ كَرَّرَهَا فِي الصَّلَاةِ وَسَجَدَ، أَمَا لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ فِيمَا إذَا أَعَادَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاتِيَّةَ قَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ بِالْكَلَامِ.
تَلَاهَا فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ سَمِعَهَا مِنْ أَجْنَبِيٍّ أَجْزَأَتْهُ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ السَّمَاعِيَّةَ لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ وَاَلَّتِي أَدَّاهَا صَلَاتِيَّةً فَلَا تَنُوبُ عَمَّا لَيْسَتْ بِصَلَاتِيَّةٍ.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التِّلَاوَةَ الْأُولَى مِنْ أَفْعَالِ صَلَاتِهِ وَالثَّانِيَةَ لَا فَحَصَلَتْ الثَّانِيَةُ تَكْرَارًا لِلْأُولَى مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ فَجُعِلَ وَصْفُ الْأُولَى لِلثَّانِيَةِ فَصَارَتْ مِنْ الصَّلَاةِ فَيَكْتَفِي بِسَجْدَةٍ وَاحِدَة، وَقَالُوا عَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ أَيْضًا: تَكُونُ تَكْرَارًا؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِمُسْتَحَقَّةٍ بِنَفْسِهَا فِي مَحَلِّهَا فَتَلْتَحِقُ بِالْأُولَى بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ فَكَانَتْ مُسْتَحَقَّةً بِنَفْسِهَا فِي مَحَلِّهَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ مُلْحَقَةً بِالْأُولَى.
وَلَوْ سَمِعَهَا أَوَّلًا مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ تَلَاهَا بِنَفْسِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَلَى مَا نَذْكُرُ.
وَلَوْ تَلَاهَا فِي الصَّلَاةِ ثُمَّ سَجَدَ ثُمَّ أَحْدَثَ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ عَادَ إلَى مَكَانِهِ وَبَنَى عَلَى صَلَاتِهِ ثُمَّ قَرَأَ ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ تِلْكَ الْآيَةَ فَعَلَى هَذَا لِلْمُصَلِّي أَنْ يَسْجُدَهَا إذَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ عَنْ مَكَانِهِ فَسَمِعَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَجْلِسُ وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إذَا قَرَأَ آيَةَ سَجْدَةٍ ثُمَّ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَذَهَبَ وَتَوَضَّأَ ثُمَّ جَاءَ وَقَرَأَ مَرَّةً أُخْرَى لَا يَلْزَمُهُ سَجْدَةٌ أُخْرَى وَإِنْ قَرَأَ الثَّانِيَةَ بَعْدَمَا تَبَدَّلَ الْمَكَانُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمَكَانُ قَدْ تَبَدَّلَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ.
وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّ التَّحْرِيمَةَ لَا تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُتَفَرِّقَةَ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ مَا لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، وَسَمَاعُ السَّجْدَةِ لَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَلَمْ يَتَّحِدْ الْمَكَانُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَلْزَمُهُ بِكُلِّ مَرَّةٍ سَجْدَةٌ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْقِرَاءَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالتَّحْرِيمَةُ تَجْعَلُ الْأَمَاكِنَ الْمُتَفَرِّقَةَ مَكَانًا وَاحِدًا حُكْمًا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَجُوزُ فِي الْأَمْكِنَةِ الْمُخْتَلِفَةِ فَجُعِلَتْ الْأَمْكِنَةُ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ فِي حَقِّ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ لِضَرُورَةِ الْجَوَازِ وَالْقِرَاءَةُ مِنْ أَفْعَالُ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْمَكَانُ فِي حَقِّهَا مُتَّحِدًا، فَأَمَّا السَّمَاعُ فَلَيْسَ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَتَبْقَى الْأَمْكِنَةُ فِي حَقِّهِ مُتَفَرِّقَةً لِعَدَمِ ضَرُورَةٍ تُوجِبُ الِاتِّحَادَ، وَالْحَقَائِقُ لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا حُكْمًا إلَّا لِضَرُورَةٍ.
وَلَوْ سَمِعَهَا رَجُلٌ مِنْ إمَامٍ ثُمَّ دَخَلَ فِي صَلَاتِهِ فَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ لَمْ يَسْجُدْهَا سَجَدَهَا مَعَ الْإِمَامِ وَإِنْ كَانَ سَجَدَهَا الْإِمَامُ سَقَطَتْ عَنْهُ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا خَارِجَ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اقْتَدَى بِالْإِمَامِ صَارَتْ قِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةً لَهُ وَجُعِلَ مِنْ حَيْثُ التَّقْدِيرُ كَأَنَّ الْإِمَامَ قَرَأَهَا ثَانِيًا فَصَارَتْ تِلْكَ السَّجْدَةُ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَلَوْ قَرَأَ ثَانِيًا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ مَرَّةً أُخْرَى؛ لِأَنَّ الْأُولَى صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاة فَكَذَا هاهنا وَإِذَا صَارَتْ مِنْ أَفْعَالِ صَلَاتِهِ لَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ.
وَذُكِرَ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَسْجُدُ لِمَا سَمِعَ قَبْلَ الِاقْتِدَاءِ بَعْدَ مَا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَذُكِرَ فِي نَوَادِرِ الصَّلَاةِ لِأَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّهُ لَوْ تَلَا مَا سَمِعَ خَارِجَ الصَّلَاةِ فِي صَلَاةِ نَفْسِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَسَجَدَ لَهَا لَا يَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَهَذَا مُوَافِقٌ لِمَا ذَكَرَهُ فِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ فَصَارَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ.
وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِتَكْرَارٍ لِلْأُولَى لِأَنَّ التَّكْرَارَ إعَادَةُ الشَّيْءِ بِصِفَتِهِ وَهَاهُنَا الْأُولَى لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً وَلَا فِعْلًا مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَالثَّانِيَةُ وَاجِبَةٌ وَهِيَ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ فَاخْتَلَفَ الْوَصْفُ فَلَمْ تَكُنْ إعَادَةً بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا فِي الصَّلَاةِ أَوْ كَانَتَا جَمِيعًا خَارِجَ الصَّلَاةِ حَيْثُ كَانَ تَكْرَارًا لِاتِّحَادِ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَ بِمِائَةِ دِينَارٍ مَا كَانَ تَكْرَارًا بَلْ كَانَ فَسْخًا لِلْأَوَّلِ وَلَوْ بَاعَ فِي الثَّانِيَةِ بِأَلْفٍ كَانَ تَكْرَارًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَكْرَارًا جُعِلَ كَأَنَّهُ قَرَأَ آيَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ فِي مَكَان أَوْ آيَةً فِي مَكَانَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُكْمٌ عَلَى حِدَةٍ دَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَرَأَ الْأُولَى وَسَجَدَ، ثُمَّ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَأَعَادَهَا يَلْزَمُهُ أُخْرَى فِي الرِّوَايَاتِ أَجْمَعَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِإِعَادَةٍ وَلَوْ كَانَ إعَادَةً لَمَا لَزِمَهُ أُخْرَى.
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الثَّانِيَةَ إعَادَةٌ لِلْأُولَى مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ؛ لِأَنَّهَا عَيْنُ تِلْكَ الْآيَةِ وَلَيْسَتْ بِإِعَادَةٍ مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ؛ لِأَنَّ وَصْفَ كَوْنِهَا رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُولَى وَوُجِدَ فِي الثَّانِيَةِ وَالْأُولَى بَاقِيَةٌ حُكْمًا لِبَقَاءِ حُكْمِهَا وَهُوَ وُجُوبُ السَّجْدَةِ فَإِذَا كَانَتْ بَاقِيَةً، وَالثَّانِيَةُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ تَكْرَارٌ لِلْأُولَى فَجُعِلَتْ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ كَأَنَّهَا عَيْنُ الْأُولَى فَبَقِيَتْ الصِّفَةُ الثَّانِيَةُ لِلتِّلَاوَةِ وَالثَّانِيَةُ لِلْأُولَى لِصَيْرُورَةِ الثَّانِيَةِ عَيْنَ الْأَوْلَى فَتَصِيرُ صِفَتُهَا صِفَةَ تِلْكَ فَصَارَتْ هِيَ أَيْضًا مَوْصُوفَةً بِكَوْنِهَا صَلَاتِيَّةً فَلَا تُؤَدَّى خَارِجَ الصَّلَاةِ لِمَا مَرَّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ سَجَدَ لِلْأُولَى؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَبْقَ حُكْمًا بَلْ انْقَضَتْ بِنَفْسِهَا وَحُكْمِهَا فَلَمْ يُجْعَلْ وَصْفُ الثَّانِيَةِ وَصْفًا لِلْأُولَى فَبَقِيَتْ الثَّانِيَةُ إعَادَةً مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ ابْتِدَاءً مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ فَتَجِبُ سَجْدَةٌ أُخْرَى مِنْ حَيْثُ الْوَصْفُ وَلَا تَجِبُ مِنْ حَيْثُ الْأَصْلُ فَلَمْ يُعْتَبَرْ جَانِبُ الْأَصْلِ وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمَتْبُوعُ لِمَا أَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ اعْتِبَارُ جَانِبِ الْوُجُوبِ فَيُرَجَّحُ جَانِبُ الْوَصْفِ فَوَجَبَتْ سَجْدَةٌ أُخْرَى عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْوَصْفِ مُوجِبٌ وَاعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَانِعٍ لَكِنَّهُ لَيْسَ بِمُوجِبٍ فَلَمْ يَقَعْ التَّعَارُضُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلَوْ قَرَأَ الْإِمَامُ سَجْدَةً فِي رَكْعَةٍ وَسَجَدَهَا ثُمَّ أَحْدَثَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ فَقَدَّمَ رَجُلًا جَاءَ سَاعَتَئِذٍ فَقَرَأَ تِلْكَ السَّجْدَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَهَا لِوُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ التِّلَاوَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ أَدَاءٌ قَبْلَ هَذَا وَعَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسْجُدُوهَا مَعَهُ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا مُتَابَعَتَهُ.